في رحلتي الأخيرة إلى مدينة لندن قمت بزيارة أحد معارض الفن والتصوير التي أحرص على زيارتها في كل مرة أكون فيها في تلك المدينة. كانت إحدى قاعات المعرض خالية تقريباَ إلاّ من لوحة لجبال جليدية متشققة تم تعليقها في صدر القاعة على برواز خشبي كُتب تحته: "مالذي تراه هنا؟". جلست طويلاً أمام تلك الوحة، أتأمل مالذي تعنيه. مسكت الورقة وكتبت عليها: "لكل شيءٍ نهاية"، وضعت الورقة في الصندوق وغادرت المعرض. لم تغادر هذه التجربة خيالي في طريق العودة إلى الفندق، هل فعلاً كانت اللوحة تعني أن لكل شيءٍ نهاية؟ أم أنّي كنت الوحيد الذي رآها بهذا السواد؟
لا أظن بأن الذي قام بهذه التجربة كان فعلاً يبحث عن الإجابة الصحيحة، فليس هناك تفسيرٌ صحيحٌ للفن. ولكن الهدف منها كان إقناع الناس بالنظر لمدة طويلة إلى صورة واحدة فقط، والبحث عن المعنى الذي تزرعه الصورة في النفس، لأننا أصبحنا فعلاً لا نقف طويلاً أمام صورةٍ واحدة لكي نبحث فيها ونفسر معناها. ولكثرة ما نرى يومياً من صورٍ في مواقع الانترنت ومواقع التواصل الإجتماعي تناسينا بأن الفن نوعٌ من أنواع التأمل، وأن الفن الحقيقي يكشف عن نفسه ببطء، ولا نستطيع الحكم على تأثير لوحة أو صورة علينا دون أن نوفيها حقها من الوقوف أمامها.
قال لي أحد الأشخاص المهتمين بالفن بأن الصورة بخير في ظل وجود العدد الهائل من الصور والمصورين الذين يتابعهم في مواقع التواصل الاجتماعي، فسألته متى كانت آخر مرة نظرت فيها إلى إحدى الصور لأكثر من خمس ثوانٍ؟ صمت طويلاً ثم قال: "لا أذكر". شعرنا حينها بخيبة الأمل، فقد كنا نظن بأن كثرة الصور ترفع من المستوى الفني لدى المشاهد، في حين أن العكس تماماً هو الصحيح، إذا كان المحتوى سطحياً.
الفن جزءٌ من العالم، وليس بعيداً عنه. والفنان الحقيقي هو الذي يؤمن بأن القيام بعمل فني شكلٌ من أشكال السفر. يذهب به بعيداً عن العالم لكي يعود بشيءٍ قريبٍ جداً من الناس، بعد تصفية نفسه من كل ما يعرفه عن هذا العمل. يأخذ وقته في البحث قبل البدء، لا يرضى بالأشياء العادية، لأنه يعلم بأنه يريد أن ينتهي بعملٍ من شأنه أن يقف أمامه لبعض الوقت، حتى يقف الناس طويلاً أمامه. تفتقد الصور التي نراها اليوم إلى المحاكاة، فالعلاقة الناجحة بين الفنان وعمله تُبنى على أساس المحادثة، يجب على الفنان أن يحاور عمله، يتحدث إليه ويستمع إلى ما يقوله له، فلا يكفي أن تنفذ عملاً فنياً دون أن تبني تلك العلاقة بينك وبين ما تقوم به.
أقف طويلاً أمام أي فكرةٍ فنية قبل البدء بتنفيذها، فالفكرة لا يكفيها أن تكون جيدة فقط لكي تصل إلى الناس إلاّ إذا ما كان تنفيذها جيداً أيضاً، وإتقان الأسلوب الخاص بكل فنان يساعد في إيصال فكرة العمل. لأن الفنان يتحكم بعمله، لكنه لا يستطيع السيطرة على ردة فعل المشاهد. فإذا سألت أحدهم، ماذا يعني لك التكوين في الصورة؟ سيقول بأنه توزيع العناصر، وقد يقول لك شخصٌ آخر: "هي العلاقة التي يخلقها الفنان بين جميع العناصر في اللوحة". كل الإجابات صحيحة، لكن الإختلاف يكمن في عمق النظر والتأمل في اللوحة.
لا زلت أذكر تلك اللوحة التي وقفت أمامها، فالوقوف أمام لوحة يعني احترام العمل، يجردنا من كل ما يدور حولنا ويساعدنا على غسل غبار الحياة اليومية عن نفوسنا. فما أجمل أن ترى عملاً يساعدك على أن تجد نفسك، وتفقدها في نفس الوقت.
موضوع عميق وقليل التداول .. أبدعت في الطرح
ردحذفاحترم وأقدر الفنان اللي يوصل إحساسه بالصورة للمشاهد، انعجب في فكرهم وعقلهم ونتائج أعماله. هنا تكمن البصمة وهنا يكمن التغيير
ردحذفذكرت بان "الفنان الحقيقي هو الذي يؤمن بأن القيام بعمل فني شكلٌ من أشكال السفر."
ردحذفهذه النظرة هي التي تخلق الفرق وتستطيع ان تجبر المتلقي ان يحترم اللوحة التي أمامه فيقف اكثر من خمس ثوان كما ذكرت.
كما ان ثقافة المتلقي ايضا تخلق الفارق الكبير.
عندما كنت في احد اجنحة متحف بوسطن للفنون The MFA
اذكر جيدا ان في هذا الجناح بالذات وضعت كراسي فخمة حمراء امام اللوحات العظيمة.
ووجدت سيدة اجنبية تجلس هناك مدة من الزمن ولم تتحرك، كانت تتامل اللوحة الجدارية وكانها ترسمها بالتفاصيل في مخليتها. كانت اللوحة بحجم الجدار بسقف عالٍ وهي لوحة من القرون الوسطى على ما اذكر.
ورغم ولعي بالفن الا انني انتهيت من الجناح المليء باللوحات الرائعة وهي لا تزال تتأمل اللوحة !
اعجبتني تلك الحالة التأملية التي سافرت من خلالها مع الرسام ولم تكترث للوقت.
موضوع مهم اشكرك عليه، وبالتوفيق دائما.
هل علي أن آنتظر كثيرا ، متى سوف تبدأ في كتابة شئ جديد ؟؟؟؟
ردحذف