قبل أكثر من عشرة أعوام وبعد وفاة جدتي مريم - رحمها الله- عدنا إلى المنزل و رأيت والدي يبكي للمرة الأولى فلم أتمالك نفسي وبكيت معه، قال لي حينها مواسياً: "لقد كانت جدتك امرأة صالحة، ويذكرها الجميع بكل خير، فقد كانت تساعد كل من حولها، والناس الطيبون يدخلهم الله في جنته بإذنه تعالى، لذلك نحن لا نبكي على مصيرها، إنما نبكي على فراقها، فقد كانت قريبةً جداً منّا، ومصيرها الجنة بإذن الله."
بالأمس انتقلت إلى رحمة الله تعالى جدتي الأخرى فاطمة (أم الوالد) ،عندها رأيت أبي يبكي للمرة الثانية في حياتي، تمنيت لو أن باستطاعتي أن أقول له بعض كلمات المواساة، فلا حزن أعظم من فقد الشخص لأمه، ولا أغلى من مواساة الإبن لإبيه. ولكن حروفي عجزت عن التعبير في ذلك الموقف، فبكيت معه.
إن اللحظات التي يقضيها المرء مع قريبه الميت منذ وفاته حتى دفنه هي أغلى اللحظات، فلا يتوقف القلب فيها عن الشعور بالرضى عن ذلك الشخص المتوفى ولا يتوقف العقل فيها عن استرجاع أجمل الذكريات معه، فالذكريات تبقى بعد الرحيل، وتقرّبنا ممن رحلوا عنّا. وما زالت تلك التفاصيل في الطريق من المسجد الذي أقمنا الصلاة فيه على أمي فاطمة إلى قبرها تسكنني حتى هذه اللحظة، تفاصيل وجه أبي، و صوت عمي أحمد و دعاء أخوتي ومن كانوا حولها لها بالرحمة والمغفرة.
تذكرت حينها زيارات جدتي لنا، فقد كانت تسكن في البيت المقابل لبيتنا، وكانت تأتينا كل يومٍ قبل الغداء لتلقي السلام علينا وتطمئن على حالنا، فنلقاها بثياب المدرسة ونقبل رأسها كما علّمنا أبي. وكانت تعلم جيداً بأن والدي يحب السمك، فتقوم بإرسال صحنٍ خاصٍ لأبي في كل يوم لا نقوم فيه بطبخ السمك، لأنها حريصة جداً على إرضاء ابنها سعيد.
كانت رحمها الله حريصةً أيضاً على زيارات أقاربها و الاتصال بهم، فكانت تنادي علينا أحياناً للاتصال بعمتي مريم في رأس الخيمة لأنها لا تحفظ الأرقام ولا تعرف القراءة، وكانت تتصل بها فقط لتسألها عن تفاصيل حياتها البسيطة، فبعد تلك السنين الطويلة ما زالت جدتي تهتم بأبسط تفاصيل حياتنا، مثل موعد نومنا، وزياراتنا و "سوالفنا" الصغيرة. فكانت تفاجئنا بالزيارة حين لا نجيب على هاتف المنزل لتطمئن أن أمي بخير و أن أبي قد عاد من المسجد.
استوقفتني ذكريات جدتي فاطمة الطيبة كثيراً وأنا أجلس عند رأسها في سيارة الاسعاف، وبدأت اتساءل، هل ما زلنا نهتم بتفاصيل حياة من نحب؟ وهل ما زلنا نسأل عنهم كل يوم؟ وهل سأقوم يوماً بالاتصال ببيت أختي لأسألها عن أكلهم وعن يومهم؟ وهل سيعود أطفالها من المدرسة ليقبّلوا رأس أمي كل يوم؟ لقد أصبحت حياتنا باردةً جداً تخلو من التواصل الصادق بالرغم من كثرة وسائل الاتصال.
عند الوصول إلى قبر جدتي، قلت في نفسي: "يرحل الطيبون و تبقى ذكراهم الطيبة". هكذا كانت جدتي فاطمة رحمها الله، طيبةً صافية القلب، عطوفة على الجميع. أدركت حينها أن فراق من نحب يهوي علينا مثل جبلٍ لا نقوى على حمله ولا احتماله إلاّ بالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة، وقد كان فراق جدتي كذلك، ولا أملك في نفسي إلاّ أن أدعو لها، فهي تستحق كل الرحمة والمغفرة. و إنني إذ أبكي الآن فإنني أبكي على فراقها لا على مصيرها، لأنها طيبة، والطيبون يدخلهم الله تعالى الجنة بإذنه، كما قال لي أبي عندما كنت صغيراً.
رحمة الله عليهم 💔
ردحذفرحم الله جدتك فاطمة وجدتك مريم ... أعدت زمني إلى وراء بقراءة كلماتك، لتلك اللحظة التي استقبلت فيها خبر وفاة جدتي آمنة، وماكانت ردة فعلي سوى الصمت في ذهولٍ شديدٍ، وظلّ الأمر هكذا حتّى رأيت أختي وأمي في حالة انهيار، فلم أستطع تمالك نفسي ... وبعدها بدأت الغوص في بحر الذكريات، أبتسم تارة، وأبكي تارة أخرى، وكنتُ ومازلتُ دائماً عند دعائي لها أسأل ربي أن يرزقني طيبة قلبها كي لا أظلم أحداً وأن تبقى ذكرى طيبة لي إلى الأبد ..... رحمهم الله جميعا ًوغفر لهم وجمعنا وإياهم في الفردوس الأعلى برحمة الرحمن الرحيم ....
ردحذف